الاذعان في عقود التأمين

 

المقدمة

يتناول هذا البحث موضوع الإذعان في عقود التأمين ، ويمكن القول أن الانسان يمر في حياته بالكثير من العقود ولو تأملنا تلك العقود لوجدنا أنها تنقسم بحسب مدى حرية المتعاقدين في القانون إلى قسمين : عقود مشيئة ، وعقود إذعان .

 

وعقود المشيئة : هي العقود التي يكون فيها الأطراف على حد السواء ، فلا يملي أحدهم ما يشاء من الشروط ، بل تنعقد في الغالب بعد تفاوض بين طرفي العقد  ومثل هذه العقود معروفة منذ قديم الزمان .

 

وعقود الإذعان : فهو العقد الذي يكون أحد أطرافه أقوى من الآخر ، فله أن يملي من الشروط ما يشاء ، ولا يحق للطرف الآخر المناقشة بل عليه القبول أو الرفض فقط ، فقد ظهرت الشركات الكبرى والمشاريع العظمى والتي يكون أصحابها في مركز قوي يتيح لهم وضع ما يشاؤون من الشروط ، فلا يملك من يحتاج إلى التعاقد إلا أن يسلم لتلك الشروط ، ولهذا أطلق على مثل هذا العقد عقد إذعان .

 

و لاشك أن مثل هذه العقود تثير من النزاعات ما لا يخفى ، بخلاف غيرها من العقود الناشئة عن طرفين متكافئين مما يدعو إلى بحثها وتأصيلها وبيان حكمها في الفقه الإسلامي .

ولقد قمت بتقسيم هذا الموضوع إلى أربعة فصول وهي كالتالي :

الفصل الأول : مفهوم وخصائص عقود الإذعان

المبحث الأول : مفهوم عقد الإذعان

المبحث الثاني : خصائص عقود الإذعان

الفصل الثاني : الطرف المذعن في عقد التأمين

المبحث الأول : ماهية الطرف الضعيف { المذعن } في العقد بوجه عام

المبحث الثاني : ماهيه الطرف الضعيف { المذعن } في عقد التأمين

الفصل الثالث : نمطية عقود التأمين وشروط الإذعان فيها

المبحث الأول : الصيغ النمطية لعقود التأمين

المبحث الثاني : فوائد تنميط عقود التأمين

المبحث الثالث : الشروط التي تجعل عقود التأمين ذات إذعان

الفصل الرابع : مواطن الإذعان في عقود التأمين

المبحث الأول : أن عقود التأمين تفقد صبغتها التعاقدية

المبحث الثاني : أن عقود التأمين عقود حقيقية تتم بتوافق إرادتين

المبحث الثالث : تقدير الشروط التعسفية في عقد التأمين

 

الفصل الأول

مفهوم وخصائص عقود الإذعان

المبحث الأول : مفهوم عقد الإذعان :

 

قال في لسان العرب : الإذعان هو الإسراع مع الطاعة والإذعان الانقياد وأذعن الرجل انقاذ وسلس ، وقال في المعجم الوجيز أذعن انقاد وسلب وأذعن بالحق أقر به وقال في مختار الصحاح : أذعن خضع وذل .

عقد الإذعان عقد وضع شروطه الجوهرية مسبقاً أحد طرفيه ليتقيد بها كل من يرغب في التعامل معه ، وقد أفرد المشرع في القانون المدني الكويتي نصوصاً خاصة بعقود الإذعان بين النصوص المتعلقة بآثار العقد أي بتفسيرها أو تنفيذها فقد نصت المادة ٨١ منه ” إذا تم العقد بطريق الإذعان تضمن شروطاً تعسفية جاز للقاضي بناء على طلب الطرف المذعن أن يعدل هذه الشروط بما يرفع عنه اجحافها أو يعفيه كليه منها ولو ثبت علمه بها  أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك ” .

 

و المادة 82:

في عقود الإذعان يفسر الشك دائماً في مصلحة الطرف المذعن .

– ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن .

وإذا كان القبول عادة في دائرة العقود وهو في ذلك كالإيجاب لا يقع إلا بعد مفاوضة وأخذ ورد ، وذلك حتى يقدّر القابل أن له مصلحة في عقد العقد فقد ظهر في العصر الحديث نتيجة للتطور الاقتصادي .

وفي هذا النوع من العقود ، اتجاه يستبعد كل مناقشه بين الطرفين إذ يتقدم أحدهما وهو الجانب القوي بمشروع عقد يوجهه إلى الطرف الآخر وهو الجانب الضعيف ولا يُسمح لهذا إلا بالقبول الذي قد يكون مجرد إذعان لما يمليه الموجب ، فالقابل للعقد لم يصدر قبوله بعد مناقشة ومفاوضة بل هو في موقفه من الموجب لا يملك إلا أن يأخذ أو أن يدع ، إنه حر ، لكن حريته تنحصر في قبول التعاقد كما هو أو رفضه ولما كان في أغلب الحالات في حاجة إلى التعاقد على شيء لا غنى له عنه فهو مضطر إلى القبول ، فرضاؤه موجود ولكنه مفروض عليه ومن ثم سميت هذه العقود بعقود الإذعان .

إذن يمكن القول أن عقود الإذعان هي صيغة من صيغ إبرام العقود تعتمد على استخدام نموذج نمطي للعقد يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة ويعرضه على الطرف الآخر الذي ليس له إلا الموافقة عليه كما هو أو رفضه دون أن يكون له أن يغير في العبارات الواردة فيه آو الشروط والأحكام التي يتضمنها ولا أن يدخل في

مجاذبة أو مساومة حقيقية على شروطه مع الطرف المعد لهذا العقد ومن هذا وصفت العقود ” بالإذعان ” وقيل أن أول من سماها كذلك القانوني الفرنسي سالي في مطلع القرن العشرين .

وأهم عنصر في هذه العقود وهو الذي جعلها مظنة الإذعان هو طريقة عرض العقد من قبل معده على الطرف الآخر إذ لسان حاله يقول :” أقبله كما هو أو اتركه كما هو” ونحن نقول إن هذا النوع من العقود هو مظنة الإذعان لأنها لا تكون من عقود الإذعان إلا إذا تضمنت شروطاً ما كان للطرف الآخر أن يقبل بها لو أعطي حرية المساومة ومن ثم يمكن القول يعيب الرضا فيها ، فإذا تحقق من حصول الرضا فيها لم تعد من الإذعان بأي وصف كانت .

 

المبحث الثاني : خصائص عقود الإذعان :

ما دامت هذه العقود محصورة في دائرة معينة وتتصل بسلع أو مرافق ضرورية لا يستطاع الاستغناء عنها فهي تحدد بالخصائص التالية :

– أنها تتعلق بسلع أو مرافق تعد من الضروريات للمستهلكين والمنتفعين أمثال التعاقد مع شركات أو مؤسسات الكهرباء والغاز ومصالح البريد والهاتف والفاكس وعقد النقل بوسائطه المختلفة من سكك حديد وطائرات وسيارات وبواخر ، والتعاقد مع شركات التأمين بأنواعه وعقد العمل في الصناعات الكبرى وعقود شركات الاتصالات وغيرها .

– صدور الإيجاب من محتكر هذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً أو على الأقل مسيطر عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق .

– توجيه الإيجاب إلى الناس كافة على نمط واحد وبشروط واحدة وعلى نحو مستمر أي لمدة غير محددة ويغلب أن يكون في صيغة مطبوعة تحتوي على شروط مفصلة لا تجوز فيها المناقشة وأكثرها لمصلحة الموجب ، فهي تخفف تارة من مسؤوليته التعاقدية وأخرى تشدد في مسؤولية الطرف الآخر وهي على درجة من التعقيد تجعل فهمها صعباً .

ففي كل هذه العقود يعرض الموجب إيجابه في صيغة نهائية لا تقبل المناقشة فيه ولا يسع الطرف الآخر إلا أن يقبل ، إذ لا غنى له عن التعاقد ، ولكن هذا الإذعان للتعاقد ليس إكراهاً يعيب الرضاء بل هو نوع من الإكراه الاقتصادي الذي لا أثر له في صحة التراضي .

 

الفصل الثاني

الطرف المذعن في عقد التأمين

المبحث الأول : ماهية الطرف الضعيف [ المذعن ] في العقد بوجه عام

المقصود بالطرف الضعيف ، الطرف الذي تنقصه القوة أو القوة الجسمية أو المعنوية وقد اعتبر الأستاذ فريدريك لو كليرك بأن الضعف يتضح من خلال علاقة تعاقدية بين شخصين يحكمهما التخوف بحكم ضعف أحدهما وذلك لأسباب متعددة :

– ضعف المؤهلات الجسمية والنفسية .

– ضعف المؤهلات التقنية .

– غياب توازن بين أطراف العلاقة التعاقدية بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأحدهما .

فوجود الطرف القوي ” المهني ” في وضعية أقوى اقتصادياً ومالياً وفنياً وقانونياً ناتج عن وضعه المهيمن في السوق أو احتكار للسلعة أو الخدمة أو على الأقل سيطرته عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق بتأثير عوامل الإنتاج والتوزيع وكذلك بامتلاكه للمعلومات والمعارف بشأن أساليب أو خصائص إنتاج أو تداول السلعة أو الخدمة أو معرفته المعمقة والدقيقة بقانون وشروط العقد .

فاختلاف المراكز التعاقدية نتيجة اختلال موازين القوى أدى إلى استغلال الضعيف من دون القوي حيث ساهم ذلك في :

* جهل المتعاقد الضعيف بالقانون أو الواقع نتيجة تعاقده خارج تخصصه .

* تعقد سوق السلع والخدمات .

* صعوبة أو استحاله فهم الوثائق التعاقدية إما لأسباب راجعة للطرف الضعيف أو لسوء صياغة العقد .

* عدم أخذ المتعاقد الضعيف الوقت الكافي للمقارنة بين مشاريع وشروط العقد المعروضة من طرف المهنيين .

* انتشار الشروط النموذجية في العقود نتيجة استفراد الطرف المهني ” المشرع ” بتنظيم منفرد وموحد للعقد .

* اعتقاد المتعاقد الضعيف بصفة خاطئة إما بقانونية أو شرعية الشروط النموذجية أو بكونها موحدة في السوق .

* الحاجة الضرورية أو المستعجلة للسلعة أو الخدمة إما واقعاً أو قانوناً .

* ظهور أشكال جديدة لتمويل السلعة أو الخدمة عن طريق القرض .

* ظهور أشكال جديدة للحث على التعاقد كالإشهار .

* ظهور أشكال جديدة لتوزيع السلع أو الخدمات كالبيع في محل الإقامة .

ولما كان الاحتياج أو عدم الخبرة لا يعتبر في حد ذاته عيباً من عيوب الإرادة ، فقد استلزم ذلك البحث عن التوازن العقدي خارج نطاق القواعد العامة لنظرية العقد التي أصبحت قاصرة عن توفير حماية فعالة لرضى الطرف الضعيف ولعل ذلك ناجم بشكل مباشر عن استمرارية سيادة مبدأ سلطان الإرادة .

في ظل هذه المعطيات ظهر المستهلك باعتباره شخصية رئيسية وغير مجرب وسهل الإيقاع به لأن عدم كفاءته الفعلية أو القانونية لا تمكنه من مناقشة بنود العقد ، كما أن عدم خبرته القانونية لا تسمح له بتقدير آثار هذه البنود على مركزه القانوني وعلى مركزه المالي .

فالجانب المعرفي للإرادة لا شك أنه أهم عامل من عوامل تكوين هذه الإرادة وتقييم كافة الآثار القانونية التي يمكن أن تترتب عنها في إطار المعاملات المدنية .

فحرية ووعي الإرادة شرطاً لوجودها في نظر القانون ولن يتحقق هذا الشرط إلا إذا توافر لكل من الطرفين العلم الكافي بالبيانات والمعلومات التي تتصل بالعقد المراد إبرامه.

 

المبحث الثاني : ماهية الطرف الضعيف [ المذعن ] في عقد التأمين

إن الطرف الضعيف في عقد التأمين لا يختلف في شيء من حيث خصائص الضعف الملحوظة عما رأينا ، من حيث كونه شخصاً عديم الخبرة أو التجربة أو الكفاءة .

فصناعة التأمين صناعة معقدة لاتسامها بتقنية بالغة نتيجة اعتمادها على علم الإحصاء ومما يضاعف من صعوبة فهمها الشروط القانونية والفنية التي يقوم عليها عقد التأمين.

فالطرف الضعيف في عقد التأمين يحمل أحد ثلاث صفات :

– صفة المكتتب أو المتعاقد .

– صفة المؤمن له .

– صفة المستفيد .

أ- المكتتب أو المتعاقد :  هو كل شخص طبيعي أو معنوي يبرم عقد التأمين لحسابه أو لحساب الغير ، ويلتزم بموجبه تجاه المؤمن بتسديد قسط التأمين وبتنفيذ الالتزامات المقابلة لالتزامات المؤمن له .

 

ب- المؤمن له :  هو كل شخص طبيعي أو معنوي يرتكز التأمين عليه أو على مصالحه فهو الشخص المهدد بالخطر المؤمن منه .

 

جـ المستفيد : هو كل شخص طبيعي أو معنوي يعينه مكتتب التأمين والذي يحصل على رأس المال أو الإيراد المستحق من المؤمن عند وقوع الكارثة المؤمن منها .

 

وليست لهذا الأمر أية أهمية من حيث الإيضاح القانوني إلا في بعض أنواع التأمين ، كالتأمين على الحياة والتأمين ضد الحوادث [ الإصابات ] التي يكون فيها عادة طالب التأمين أو المؤمن له أو المستفيد أشخاص مختلفة ، أما فيما عدا هذه الأنواع فيستعمل اصطلاح المكتتب أو المؤمن له أو المستفيد للدلالة على الشخص المتعاقد مع المؤمن ، فعدم المساواة بين الأطراف ليس بجديد لكنه يمثل في الوضعية الحالية مظاهر جديدة فالشروط موحدة في كل نطاق الخدمات غير أن الوضع يزداد سوءاً إذا علمنا أن الخدمة مثل خدمة التأمين لا غنى عنها للمستهلك ، وفي الوقت الذي تتمتع فيه شركات التأمين بوضع ” احتكاري ” ، يجد المؤمن له نفسه طرفاً في عقد التأمين لم يحدد التكلفة الحقيقية له ، ولا إشارة فيه للالتزامات التي يتحملها بمقتضى العقد كما قد لا تتوفر في الخدمة الشروط المتوقعة أو المنتظرة من المتعاقد .

 

ويترتب على عدم المساواة تلك غياب النقاش الحقيقي بين طرفي العقد فلا يستطيع المستهلك أن يكون نداً لشركة التأمين نظراً لوضع الضعف الذي هو عليه ، فالعلاقة بين قوي وضعيف لا يمكن أن تكون عادلة وإنما يقول البعض أنه بين القوي والضعيف فإن الحرية التي تنتهك والقانون الذي يتم تخطيه أو تجاوزه ما دام أنه مجرد قواعد مكملة .

 

لكن في بعض الأحيان يكون الطرف الضعيف في العقد واع بالالتزام المعقود ولكنه ملزم بقبول الشروط المضمنة به لأنه لا تتوافر لديه حرية الاختيار أي القدرة على المفاوضة والمساومة لمناقشة بنود وشروط العقد .

 

فحماية الطرف الضعيف في العقد أو المستهلك أو الجاهل أصبحت في الوقت الراهن هدفاً في جميع النظم القانونية ، وكان من بين الوسائل التي تم اعتمادها تقنية التدخل التشريعي الآمر في العقد كآلية مهمة لتحقيق التوازن العقدي تحقيقاً لمتطلبات العدالة  فحرية وكرامة الإنسان تعدت الجانب السياسي المرتبط بالحريات العامة إلى الجانب القانوني المتعلق بالحرية التعاقدية المقيدة بمراعاة مبادئ المساواة والعدالة وبتجنب الظلم والتعسف وذلك بتوفير الأمن والسلامة القانونية للمعاملات التعاقدية .

 

الفصل الثالث

نمطية عقود التأمين وشروط الإذعان فيها

المبحث الأول : الصيغ النمطية لعقود التأمين :

قال في لسان العرب : النمط الطريقة والضرب من الضروب ، والنمط جماعة من الناس أمرهم واحد ، وقال في المغرب : والنمط الطريقة والمذهب منه ” تكلموا على نمط واحد ” ، وعندي قاع من هذا النمط أي من هذا النوع ، وفي الحديث عن علي رضي الله عنه  ” خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي ” .

والصيغ النمطية هي صيغ معدة من قبل أحد طرفي العلاقة التعاقدية ، تتضمن أحكام وشروط المعاقدة يعرضها على الطرف الآخر في حال الرغبة في الدخول في العقد دون أن يكون للأخير إلا الحد الأدنى من الاختيار .

وقد انتشرت العقود النمطية في المعاملات التي تجري بين الناس وبخاصة في مجالات الاستهلاك ، وقد قدر بعض الباحثين عام ١٩٧١ إن الصيغ النمطية الجاهزة للعقود تغطي نحو ٩٩٪ من المتعاقدات التي تجري في البلاد الغربية ، أما العقود التي تنعقد بالطريقة التي نتصورها نظرياً أو تلك التي تعدها كتب الفقه الصيغ الأساس للمتعاقدات فإنها تكاد تكون قد اختفت تماماً من حياة الناس المعاصرة ، فالعقود التي تقع بين الناس سواء وقع الايجاب والقبول به طرفيها مكتوباً أو ملفوظاً أو كانت بالمعاطاة تجري على نمط معد مسبقاً ونظام مرتب اقتضته معطيات التطور الاقتصادي والتكنولوجي ، ولم يعد يقع بين الناس اليوم تلك المساومة والمجاذبة على شروط العقد التي يفترض أن تكون دليلاً على تحقق الرضا .

 

المبحث الثاني : فوائد تنميط عقود التأمين :

ما كان اتجاه الناس إلى ” تنميط العقود ” إلا لما ظهر فيها من فوائد تعود على طرفي العلاقة التعاقدية يمكن إن نعد منها :

وتأتي فوائد تنميط عقود التأمين إلى اختصار الوقت وتقليل الإجراءات الإدارية إذ إن وجود صيغة جاهزة جرى الموافقة المسبقة عليها من الجهة المعينة من المؤسسة يؤدي إلى زيادة كفاءة العمل ، وبخاصة أن المتعاقدات التي تجري بين الناس في يوم الناس هذا لم تعد كما كانت قديماً .

المبايعات في الزمان القديم كانت تتم بيسر وسهولة لبساطة محل المعاقدة ، أما اليوم فإن السلع الإلكترونية والميكانيكية والخدمات الطبية وعمليات الصيانة والتشغيل والمقاولات جميعاً تتضمن تفاصيل كثيرة يصعب آن تكون محل مساومة في كل مرة ، أضف إلى ذلك الحجم العظيم من الأعمال الذي ترتب على التزايد الكبير للسكان في كل بلد .

خفض تكاليف التعاقدات وبخاصة في الحالات ذات الطبيعة المعقدة مثل عقود بيع المعدات والعقارات والآلات الطبية والطائرات وإلى آخر ذلك التي تمتد سنوات لارتباطها بترتيبات صيانة وتجديد وتدريب وما إلى ذلك ، وهذا يسهل العمل ويغني عن المجاذبة والمساومة كل مرة يقع فيها بيع .

يؤدي التنميط إلى جعل العلاقة بين المؤسسة وعملائها ذات طبيعة موحدة ، وعندئذٍ  يمكن معاملة جميع العملاء أو الموظفين بصورة جماعية بدلاً من نشؤ علاقة مختلفة مع كل واحد منهم ، ومن ثم تفادي التفرق بين الناس بحسب قوتهم التفاوضية .

إن التنميط يقلل الوقوع في الأخطاء ، لأن العناية بالنمط المعتمد تكون عظيمة وإن تكرر العمل به يخلصه من بعض ما يلاحظ عليه من نقص أو خلل لمعاودة النظر فيه وتكرره ، كما إن العقود النمطية لما تلقاه من عناية المشخصين تكون أوضح في الصياغة وأدق في العبارة ومن ثم أيسر في الفهم ، وكل ذلك يسهل عمل المحاكم وجهات فض المنازعات في كل الاختلاف لأن هذه الأحكام المتشابهة واللغة الموحدة والمعايير المعتمدة تسد الذرائع إلى النزاع كما أنها تسهل فضه إن وقع .

 

المبحث الثالث : الشروط التي تجعل عقود التأمين ذات إذعان 

إن غرض معدّ عقد التأمين من جعله نمطياً ليس للطرف الآخر الاعتراض على محتواه أن يضمنه أنواعاً من الشروط التي ترجح مصلحته على مصلحة الطرف الآخر القابل به وتحمي حقوق معد العقد أولاً وتلزم الطرف الآخر بالتزامات لا يقبلها لو ترك الأمر له أو كان يتوافر على قوة تفاوضية كافية ، وإنما وصف العقد بأنه عقد إذعان لما فيه من شروط يرجح أن الطرف الآخر لم يكن ليرضى بها لو كان انعقاد العقد بإرادته الحرة واختياره التام من ذلك :

 

أ- اشتراط التنازل عن اللجوء إلى القضاء لفض النزاع :

كثيراً ما يرد في عقود النمطية شرط التنازل عن حق اللجوء إلى القضاء في حال الاختلاف أو المنازعة مع الطرف الآخر ، وإذعان القابل لحكم هيئة صلح ينص غالباً على طريقة تكوينها في صلب العقد ، ويقع ذلك أكثر ما يقع في عقود العمل وفيها يوقع الموظف على موافقته أن تكون ما تتوصل إليه تلك الهيئة نهائياً يرضاه ولا يلجأ إلى المحاكم بعد ذلك ، ولقطع طريق العامل إلى المحاكم ينص في العقد على حرمانه من كافة حقوقه الباقية له بموجب العقد كالتقاعد ومكافأة نهاية الخدمة ونحوها إذا لم يلتزم بهذا الشرط فيكون في لجؤه إلى القضاء مخاطرة عليه .

 

ب- اشتراط أن دفاتر البنك هي البينة على الحسابات عند الاختلاف :

وهذا نص معتاد في اتفاقيات فتح الحسابات المصرفية ، إذ يقر العميل بأن قد رضي بما يكون مسجلاً في دفاتر البنك في حال الاختلاف ، فإذا وجد حسابه ناقصاً وأخبره المصرف أنه ” أي العميل ” سحب منه ، بينما يقول هو أنه لم يسحب كان الحكم في المسألة بناء على هذا الشرط لما يوجد في سجلات البنك فحسب .

 

ج- اشتراط سقوط حق المطالبة بعد مدة وجيزة :

من ذلك ما ينص في اتفاقيات فتح الحسابات المصرفية أن للعميل إذا تلقى كشف الحساب من البنك الاعتراض على ما يرد فيه من خطأ خلال ١٥ يوماً فإذا لم يفعل سقط حقه في الاعتراض على ما ورد في ذلك الكشف من أخطاء حتى لو أنه لم يتسلم الكشف إلا متأخرة ، وجلي أن هذه الأخطاء يترتب عليها ضياع لحقوق أو أموال صاحب الحساب ، لذلك فإن النص على موافقته على ما ورد في الكشف وسقوط حقه في الاعتراض عليه بعد هذه المدة يعني إقراره بما ورد في ذلك الكشف ، والتزامه بما جاء فيه وسقوط حقه في الاعتراض مستقبلاً .

 

د- اشتراط أن مجرد إرسال الاشعارات إليه يعد تسلماً لها منه :

وهو نص يرد في العقود النمطية الخاصة بالخدمات وغيرها وينص على أنه بمجرد تسليم ” الاشعارات ” والخطابات والفواتير إلى مكتب البريد يكون العميل قد تسلمها إذا كانت مرسلة إلى العنوان الذي ذكره في العقد عند التعاقد ، وليس له ادعاء عدم ذلك ، وبهذا يسقط الطرف الأقوى المسؤولية عن نفسه بمجرد إيداعها في البريد بما في ذلك ما يكون من مخاطبات تبلغه بتغيير رسوم الخدمات أو إدخال التعديلات في شروط العقد …الخ ، وكذلك فواتير الخدمات إذ أن مجرد إرسالها يعد تسلماً لها من قبل العميل ، ولذلك فإن عدم تسديدها يعتبر مماطلة توجب الغرامات وقطع الخدمة وليس له الاعتذار بأن الفاتورة لم تصل إليه .

 

و- جعل عقود التأمين جائزة في حق الطرف القوي :

ومنها اشتراط أن يكون العقد جائزاً من جهة الطرف القوي لازماً من جهة القابل به فينص على حق فسخه في أي وقت بإرادة منفردة وكذلك النص على حقه في تغيير شروط المعاقدة دون موافقة الطرف الآخر ، من ذلك ما يرد في العقود النمطية للمصارف ” عند إصدار بطاقات الائتمان ونصه : يحق للبنك إلغاء البطاقة الأساسية أو أية بطاقات إضافية تكون قد أصدرت عنها بدون إشعار العميل بإيقاف العمل بها ”

 

ومنها يحتفظ البنك بحقه في تعديل شروط وأحكام هذه الاتفاقية كلياً أو جزئياً وذلك بدون موافقة العميل وينطبق ذلك على جميع الرسوم الخاصة بالبطاقة .

ي- البراءة من كل عيب والتحلل من كل التزام والمبالغة في حماية حقوق طرف على حساب الآخر :

أشرنا آنفاً إلى خصوصية عقود استخدام برامج الحاسوب ، ويرد في هذه العقود شروط لا باعث عليها إلا الإذعان ، ونقدم أدناه أمثلة على نصوص ترد في هذه العقود منها :

{ ويشار إلى الطرف الأول فيها بأنه صاحب البرنامج أو الشركة بينما يشار إلى الثاني بأنه المستخدم } وهذه الصيغة أصبحت نمطية تكاد ترد في كافة برامج الحاسوب :

* يتنازل المستخدم عن كل حق له ويبرء ويسامح ويتخلص ويترك كل استحقاق أو ادعاء يدعيه على الشركة وموظفيها أو المسؤولين فيها ووكلائها وموزعيها وملاك أسهمها وممثليها وكل من له صلة أو علاقة بها عن أي حق أو ضرر أو خسارة تقع عليه من جراء استخدام هذا البرنامج سواء كانت بصفة مباشرة أو غيز مباشرة خطأ كانت أو عمداً ، وفي نفس الوقت فإن المستخدم يتعهد بتعويض الشركة وحمايتها والدفاع عنها وعن شركاتها الفرعية وشركتها الأم وحملة أسهمها والموظفين والمسؤولين فيها وعمالها عن أي ضرر أو خسارة أو ضرائب أو أي مسئولية من أي نوع كانت وأية مصاريف تتكبدها الشركة أو موظفيها أو عمالها أو حملة أسهمها ناشئة عن قيام الشركة بعملها الطبيعي في إتمام المهام الملقاة على عاتقها .

 

* لا يقدم صاحب البرنامج ولا البائع ولا الموزع أية ضمانات أو تأكيدات أن هذا البرنامج صالح للعمل أو مناسب لأي تطبيق ولا أنه يعتمد عليه في أي شيء أو أنه مستوف لمتطلبات الدقة أو للشروط والمواصفات الفنية لا جملة ولا تفصيلاً وإنما يبيعه كما هو بدون أية ضمانات أو تأكيدات كما لا يتحمل صاحب البرنامج ولا الموزع أية مسئولية مباشرة أو غير مباشرة خاصة أو عامة من أي نوع كان ولا يتحمل التعويض عن الإضرار بأية صفة كانت .

 

* يتنازل المستخدم عن كل حق له في الاحتكام إلى أية محكمة بما فيها محاكم البلد الذي يقيم فيه ، ويحتفظ صاحب البرنامج من جهة أخرى بحقة في مقاضاته في أي محكمة يختار بإرادته المطلقة والمنفردة ولا يلزم ذلك أن يكون في مكان إقامة مستخدم البرنامج أو في مقر عمله ولا في مكان صاحب البرنامج وإنما في أي محكمة يختارها وليس للمستخدم الاعتراض على ذلك .

 

الفصل الرابع

مواطن الإذعان في عقود التأمين

سوف أقوم باستعراض مواطن الإذعان في عقود التأمين من خلال مبحثين استعرضهما فيما يلي ، حيث ذكر السنهوري أن انقسام الفقهاء في طبيعة عقود الإذعان إلى مذهبين رئيسيين .

 

الرأي الأول : أن عقود التأمين تفقد صبغتها التعاقدية :

يرى هذا الرأي إنها ليست عقوداً حقيقية حيث انكر بعض الفقهاء على عقود الإذعان صبغتها التعاقدية ، إذ العقد توافق إرادتين عن حرية واختيار ، أما هنا : فالقبول مجرد اذعان ورضوخ ، فعقد الإذعان أقرب إلى أن يكون قانوناً فرضت شركات الاحتكار على الناس اتباعه ، فيجب تفسيره كما يفسر القانون ويراعي في تطبيقه مقتضيات العدالة وحسن النية ، وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها .

 

فالمذعن في عقد الإذعان لا يستطيع إلا أن ينزل على حكم شركات الاحتكار فالرابطة القانونية فيما بين المذعن والمحتكر قد خلقتها إرادة المحتكر لوحدها ، وهذه الإرادة المنفردة للمحتكر هي بمثابة قانون ، أخذت شركات الاحتكار الناس باتباعه شأن كل قانون فتفسير عقد الاذعان وتحديد الالتزامات التي يولدها يجب أن يكون في ظل هذه الاعتبارات ، فيفسر العقد كما يفسر القانون لا باعتبار أنه وليد إرادة الأفراد .

إذا هو مركز قانوني ينظم المصلحة العامة لمجموع الأفراد الذين يخضعون له ، فيطبق هذا القانون التعاقدي تطبيقاً تراعي فيه مقتضيات العدالة وحسن النية وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها .

 

فالمشترك في هذه الشركات العامة المحتكرة للأمور الحياتية والضرورية يقبل أن يكون عضواً في هيئة لها نظامها ، فهو لا يساوم ولا يناقش ولابد له في وضع النظم التي يخضع لها في عمله بل المتعاقد والمشترك يقبل قانوناً يعرض عليه فهي ظاهرة قانونية أصبحت معتادة في الوقت الحاضر .

إن عقد الإذعان هو مركز قانوني منظم يجب أن يعني في تطبيقه بصالح العمل أولاً ثم بما يستحق الحماية من صالح كل من طرفي العقد .

 

الرأي الثاني : أن عقود التأمين عقود حقيقية تتم بتوافق إرادتين :

يرى هذا الرأي أن غالبية فقهاء القانون المدني أن عقد الإذعان عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين ، ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود ومهما قيل من أن أحد المتعاقدين ضعيف أمام الآخر ، فإن هذه الظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية وعلاج الأمر لا يكون بإنكار صفة العقد عن عقد حقيقي ، ولا يتمكن القاضي من تفسير هذا العقد كما يشاء بدعوى حماية الضعيف فتضطرب المعاملات وتفقد استقرارها ، بل أن العلاج الناجح هو : تقوية الجانب الضعيف حتى لا يستغله الجانب القوي ، وتقوية الجانب الضعيف يكون بإحدى وسيلتين أو بهما معاً :

الأولى : وسيلة اقتصادية ، فيجتمع المستهلكون ويتعاونون على مقاومة التعسف من جانب المحتكر .

الثانية : وسيلة تشريعية ، فيتدخل المشرع – لا القاضي – لينظم عقود الإذعان .

والسؤال المطروح هنا هو : ما هو الصحيح من هذين المذهبين ؟

والظاهر : أن الجواب مرتبط بتعريف العقد في الفقه :

 

1- فقد عرف الفقه الغربي العقد بانه : اتفاق ارادتين على انشاء حق أو على نقله أو على انهائه .

أقول : بناء على هذا التعريف فتكون عقود الإذعان عقوداً تفيد الالتزام بالتمليك للسلع أو للخدمات { المنافع } ، لإن تعريف العقد عندهم عبارة عن انشاء الالتزام بنقل الحق أو ايجاده وليس بنفسه انشاء للنقل أو للحق فالبيع مثلاً في الفقه الغربي ليس انشاء للتمليك والتملك أو النقل والتبادل ، وإنما هو انشاء للالتزام بفعل ذلك وعلى هذا تكون عقود الإذعان عندهم عقوداً حقيقية .

ولكن هذا التعريف للعقد من قبل الفقه الغربي غير صحيح لأن العقد كما يمكن أن يكون عبارة عن انشاء التزام بنقل حق أو ايجاده فيمكن أن يكون انشاء للنقل أو انشاء للحق كما في البيع الذي هو انشاء التمليك والنقل ، فالاقتصار على أن تكون العقود هي انشاء للالتزام بنقل الحق أو ايجاده هو تخلف في الفقه الغربي على أن التعريف يشمل الوعد ولا يقتصر على العقد ، وهذا اشكال آخر على تعريف الفقه الغربي للعقد .

2- وقد عرف الأستاذ الزرقاء العقد ناسباً ذلك إلى مصطلح الفقه الإسلامي [ السني الحنفي في مجلة الأحكام الشرعية ] بأن العقد هو : ارتبط يجاب بقبول على وجه مشروع يثبت اثره في محله .

ويقرب من هذا التعريف ما نقله الدكتور { عبد الرزاق السنهوري }عن صاحب ” مرشد الحيران” من أن العقد عباره عن ارتباط الايجاب الصادر من أحد المتعاقدين بقبول الآخر على وجه يظهر اثره في المعقود عليه .

أقول : إذا جعلنا العقد مختصاً بالعقد الصحيح [ كما في التعريفين المتقدمين عن الزرقاء والسنهوري ] فما دامت عقود الإذعان مختلفاً في كونها عقداً أو قانوناً أو ما دامت مختلفاً فيها صحة و بطلاناً ، فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ العقد لأن الشك آل إلى وجود المقوم ، فيكون التمسك بإطلاق لفظ العقد تمسكاً بالإطلاق في الشبهة الموضوعية وهو باطل كما قرر ذلك في الأصول .

والعقد بمعناه اللغوي أعم من العهد ، لأن العقد لغة هو ربط شيء بشيء والعهد لا أقل من ارتباطه بما تعلق به ، فكل عهد وقرار عقد ، ولكن ليس كل عقد عهداً وقراراً فعقد الحبل مثلاً لا علاقة بالعهد والقرار ، ولكن العقد بمعناه الاصطلاحي أخص من العهد ، لأن العقد هو القرار المرتبط بالقرار والعهد هو مطلق القرار من دون تقييد بالارتباط بقرار آخر ، والعهد الذي هو القرار والجعل قد يكون في المناصب المجعوله كالإمامة والخلافة كما في قوله تعالى { إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } وقد يكون في التكاليف كقوله تعالى { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل إن طهرا بيتي للطائفين } .

وعلى هذا التعريف للعقد تكون عقود الإذعان عقوداً حقيقية ، لأن قرار المتعاقد ارتبط بقرار المذعن [ سواء كانت عقود الإذعان صحيحة أو فاسدة ] ولا يشمل هذا التعريف الوعد الذي كان مشمولاً لتعريف الفقه الغربي ، على أن التعريف مستبطن للإيجاب والقبول بمعنى أوسع من مثل بعت وقبلت ، وبعت واشتريت ، لأنه يشمل مطلق القرارين المرتبط أحدهما بالآخر ، فيشمل القرارين المرتبط أحدهما بالآخر ولو كانا فعليين ، فتدخل فيه المعاطاة أيضاً .

والخلاصة : أن كل التعاريف للعقد { سواء كانت غربية أو إسلامية } اثبتت أن عقود الإذعان هي عقود حقيقية وليست صيغة قانونية أخذت شركات الاحتكار الناس باتباعها .

على إننا يمكننا أن نقرر عده ملاحظات على عقود الإذعان تجعله لا يختلف عن بقية العقود التي لا اشكال في صفتها بالعقدية وهي :

1- أن أكثر العقود فيها اذعان من أحد الطرفين للآخر إذا كان أحدهما مضطراً للآخر أو كانا كلاهما مضطرين للتعاقد .

2- أن عقود الإذعان تحتوي على ضرر أقل من العقود الأخرى التي يضطر إليها أحد الأطراف ، لأن الايجاب في عقود الإذعان يكون عاماً للجميع بصورة واحدة فيندر أن يكون غلط في العقد أو تدليس .

3- أن المحتكر في عقود الإذعان ليس له غلبه على غيره ، لإن هو أيضاً خاضع للظروف الاقتصادية المحيطة به ، فهي تضطره وتملي عليه شروط العقد وليس هو الذي يملي شروط العقد على الطرف الآخر حقيقة .

4- بل قد يكون المحتكر أضعف من المستهلكين كما يحصل عند تآلبهم عليه واجتماع كلمتهم على محاربته .

ومن كل ما تقدم ثبت عندنا أن عقود الإذعان عقود حقيقية .

 

المبحث الثالث : تقدير الشروط التعسفية في عقد التأمين :

أن القاضي هو الذي يملك حق تقدير الشرط التعسفي ، فإذا قدر وجود الشرط التعسفي فلا يجوز لأي محكمة أن تنقض ما قدره من الشرط التعسفي ما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي أخذ به القاضي في عد الشرط تعسفياً ، وحينئذ إذا كشف القاضي شرطاً تعسفياً في عقد الإذعان فله ما يلي :

1- أن يعدل الشرط التعسفي بما يزيل أثر التعسف .

2- أن يلغي الشرط بأكمله [ أي يعفي الطرف المذعن من الشرط ] .

ثم أن المشرع لم يحدد في تشخيص القاضي للشروط التعسفية حدوداً إلا ما تقتضيه العدالة .

وما دام هذا هو النظام العام لعقود الإذعان فلا يجوز للمتعاقدين أن ينزعا من القاضي سلطته هذه { على تعديل شروط الإذعان أو الغائها } باتفاق خاص حيث يكون هذا الاتفاق باطلاً لأنه مخالف للنظام العام الذي وضعه القانون لعقود الإذعان ، وبهذا سد القانون العام على شركات الاحتكار الالتجاء إلى هذا الاتفاق لتجعله شرطاً مألوفاً في عقودها .

أقول : أن العقد الذي وقع بين الشركة والمذعن بإرادتهما ، أن أدعى المذعن وجود شروط تعسفية لم يلتفت إليها حين العقد ، بحيث عد المذعن سفيهاً حين اقدامه على العقد فيكون العقد باطلاً للسفه الذي يجعل العقد باطلاً من أساسه ، لأن السفيه محجور عليه في معاملاته المالية وإن لم يعد المذعن سفيهاً ولكن كانت الشروط التعسفية توجب غبناً في المعاملة للمذعن فهنا يكون للمذعن خيار فسخ العقد الذي أقدم عليه وإن لم توجب الشروط التعسفية غبناً في المعاملة فلا يحق للقضاء تعديل هذه الشروط أو الغائها ، لأن هذا عبارة عن عقد جديد ولابد فيه من رضا الطرفين فما لم يرض أحد الطرفين يكون العقد الجديد بلا رضا من الطرفين وهو غير صحيح .

يمكن لنا أن نبطل الشروط التعسفية في عقود الإذعان إذا كانت مخالفة للقرآن والسنة [ أي تحلل حراماً أو تحرم حلالاً ] أو إذا كانت تنافي مقتضى العقد أو تتناقض مع شروط أخرى سابقة عليها ، أما في غير هذه الموارد مما ينطبق عليها الشروط الصحيحة فيجب الوفاء فيها .

إن عقود الإذعان لها خصائص تمتاز بها عن بقية العقود ، وبهذا ستكون لها دائرة خاصة إذا عرفنا تلك الخصائص المميزة لها ، والخصائص المميزة لها هي :

1- أن يتعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين .

2- أن يكون الموجب محتكراً لهذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً أو أن يكون على الأقل صاحب سيطرة عليها تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق .

3- أن يصدر الايجاب إلى كافة الناس بشروط واحدة ، ولمدة غير محدودة وهذا الايجاب يحتوي على شروط مفصلة أكثرها لمصلحة الموجب [ إما تخفف من مسؤوليته التعاقدية أو تشدد من مسؤولية الطرف الآخر ] ولا تجوز فيها المناقشة ، والشروط بمجموعها تمتاز بأنها غير متيسرة الاستيعاب والفهم لعامة الناس .

 

مما سبق نستنتج أن :

الفقهاء قد اختلفوا في طبيعة عقود الإذعان فانقسموا فريقين رئيسين : ويدور اختلافهم في الواقع حول الجواب عن السؤال التالي : هل يعد القبول في عقد الإذعان قبولاً على المعنى الذي بصدوره ينعقد العقد أو إنه لا يعد ذلك وإذن فلن يكون هناك عقد .

وقد ذهب فريق أول أكثرهم من فقهاء القانون العام ، إلى انكار صفة العقد على عقد الإذعان ولم يعدوه مركزاً قانونياً منظماً ، فهذا الذي يوصف بوصف العقد ليس إلا تصرفاً قانونياً من جانب واحد ذلك أن إرادة واحدة هي التي استقلت بوضع شروط التعاقد ثم فرضته فرضاً على الجانب الضعيف الذي كان قبوله مجرد اذعان وانصياع فهي من ثم قريبة الشبه بالقاعدة القانونية وينبغي أن تفسر كما تفسر هذه القاعدة أي وفق مقتضيات الصالح العام والعدالة وحسن النية وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها ، لا كما يفسر العقد أي طبقاً لما قصده الطرفان ، أي يجب أن يعنى في تطبيقه بمصلحة العمل أولاً ثم بما يستحق الحماية من مصالح كل من طرفي العقد .

 

ويرى فريق ثان ، وهم غالبية الفقهاء القانون المدني أن عقد الإذعان عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود ، إذ ليس من المحتم أن تسبق القبول في العقود مفاوضات ومناقشات ولا أن يكون نصيب الطرفين في إنشاء العقد متساوياً ، وكل ما يتطلب القانون هو اتفاق الطرفين على إحداث أثر قانوني معين ، فإذا قيل إن أحد المتعاقدين ضعيف أمام الآخر ، فإن هذه ظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية ، ولا يكون علاج الأمر بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ينضوي تحت تعريف العقد بأنه تبادل تعبير عن إرادتين متطابقتين بقصد إنشاء التزام أو أكثر بل إن هذه العقود تفضل العقود المعتادة لأنها واحدة للجميع فيقل فيها خطر الغلط والتدليس ، ولأنها تمكن السلطات العامة من مراقبة شروطها ، وعلى هذا لا يتمكن القاضي من تفسير هذا العقد كما يشاء بدعوى حماية الضعيف فتضطرب المعاملات وتفقد استقرارها وهذا الرأي هو الذي ساد في فقه القانوني المدني .

 

الخاتمة :

في الخاتمة يمكنني القول يطلق أهل العلم على الإذعان معاني متعددة منها : الإقرار ومنها السرعة في الطاعة والانقياد ، ومنها الذل والخضوع وهذه المعاني السابقة تنطبق على عقد الإذعان إذ المذعن مضطر إلى التعاقد فهو في موقف ضعيف ذليل يجعل منه مطيعاً ومنقاداً للشروط التي وضعها الطرف القوي .

 

ويعد عقد الإذعان من العقود الحديثة النشأة ظهر أول ما ظهر في العالم الغربي إبان ظهور الثورة الاقتصادية الحديثة وقد اختلف علماء القانون في اسم هذا العقد ، ففي القانون الفرنسي أطلق عليه عقود الانضمام ، أما القوانين العربية فأغلبها يطلق عليه عقود الإذعان .

 

ويختلف علماء القانون في طبيعة عقود الإذعان ، فمنهم من يرى أن عقد الإذعان لا يوصف بالصفة التعاقدية بل هو في مركز قانوني تنشئة إرادة منفردة يصدرها الموجب فتكون بمثابة قانون أو لائحة ، ويرى فريق آخر أن عقد الإذعان يعتبر عقد حقيقياً يتم بتوافق إرادتين ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود .

 

وحكم عقد الإذعان في النظام من حيث الحرمة والإباحة محل اتفاق بين شُراح القانون فهي معتبرة وجائزة ، فالقوانين نصت عليه ووضعت له أحكاماً يتفرد بها عن غيره من العقود .

 

من تطبيقات عقد الإذعان في النظام : الإذعان في عقد التأمين ، فالتأمين من حيث الإلزام به وعدمه نوعان : الأول التأمين الاختياري ، الثاني التأمين الاجباري : وهذا النوع هو الذي يعنينا فعندما تلزم الدولة المواطنين بالتأمين على المركبة فإن خدمة التأمين تصبح حاجيه .

 

error: عذرا, المحتوى محمي و لا يجوز النسخ