الميزان الإسلامي عن العدل في زمن الخلفاء

 

الميزان الإسلامي: عن العدل في زمن الخلفاء

نعرف جميعًا أن الميزان هو رمز العدالة، والعدالة كتعريف شعري هي سلطة عمياء، لا تفرّق بين بني الإنسان على أي أساس سوى الفعل والفرصة المتكافئة، فهي دالّة تعمل على وضع خط مستقيم للسير والعيش الإنساني دون أي تفرقة، ودون أي تهاون مع من يخالف القواعد العامة المشروطة للسير داخل تلك الحياة المشتركة بين البشر.

والتاريخ الإسلامي يحفل بالعديد من القصص والقضايا المستثارة التي ظهر من خلالها تشريعات مهمة في ذلك السياق، والتي ربما تكون –بالرغم من بساطة مواقفها وأسبابها- قد غيّرت خارطة القانون الإنساني، ولفتت انتباه الوعي الجمعي للبشر نحو قضايا ربما لم تكن مثارة من قبل. نستعرض في هذه المقالة المقتضبة مجموعة من القصص التي وقعت في أحد أهم فترات التاريخ الإسلامي زهاءً، والتي ربما كانت سببًا مباشرًا في إرساء أحد أهم قواعد العدالة بين الناس، والتي بالرغم من حدوثها بشكل عرضي، وبالرغم من أن الفصل فيها كان بشكل لحظي، فإن تلك القصص كانت العماد الأساسي للدارسين فيما بعد كي يكتشفوا الملامح المبسطة والواضحة لمبدأ العدل الإسلامي، والتي لم تفتح المجال لأي نوع من أنواع الجدل.

 

موقف درع الإمام علي رضي الله عنه والرجل اليهودي :

ذات مرّة، اختلف الإمام علي رضي الله عنه مع رجلٍ يهودي الديانة حول الدرع الخاص بالإمام علي، والدرع هو أداة حربية قديمة تلبس على الصدر أو الذراع كي تحمي الإنسان من طعنات السيوف وخلافه. تجادل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الرجل اليهودي إلى أن قرّر الإمام علي أن يرفع الأمر إلى القاضي، ومن بداية الموقف نجد سلطة الفصل القضائي والعدل بين الناس في أبسط الإلماحات، فإن الإمام علي لم يجد بدًّا من اللجوء إلى القاضي لاسترداد درعه. لم يستغل مكانته بين المسلمين، ولم يستغل اسمه، ولم يستغل انتماء الرجل الآخر إلى طائفة قليلة العدد داخل المجتمع الإسلامي.

لجأ الإمام علي رضي الله عنه –الذي كان أمير المؤمنين وقتها- إلى القاضي، وتبعًا لمبدأ البرهان والدليل الذي يقوم عليه القضاء والفصل بين المتنازعين في الشريعة الإسلامية، سأل القاضي الإمام علي بن أبي طالب سؤالًا واضحًا: ” هل معك شهود؟”. أجاب الإمام علي بن أبي طالب بالإيجاب، وأحضر ابنه الحسين، والذي أقرّ بأن الدرع تعود ملكيته إلى أبيه الإمام علي، لكن القاضي تجاهل شهادة الابن، ووجّه سؤالًا آخر للإمام علي يستفسر به عمّا إذا كان يملك شاهدًا آخر،. هنا أجاب الإمام علي بالنفي.

لذلك السبب، ولأن شهادة الابن في صالح أبيه مجروحة، فصل القاضي بأن الدرع من حق اليهودي، وحكم لليهودي بالإنصاف على حساب الإمام علي بن أبي طالب، بينما تقبّل أمير المؤمنين فصل القاضي في الأمر.

أصابت الرجل اليهودي دهشة عارمة فخرّ متأثراً وقال: “أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى على أمير المؤمنين ورضى.

صدقتَ والله يا أمير المؤمنين.. إنها لدرعك سقطتْ عن جمل لك فالتقطتُها؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”. أعلن الرجل إسلامه في لحظة عندما رأى صورة بارزة من العدل والمساواة بين البشر تتحقّق أمامه على أرض الواقع، وفرحًا بدخوله إلى الإسلام، منحه الإمام علي بن أبي طالب الدرع كهدية متنازلًا عنه.

 

وكذلك موقف الفاروق عمر بن الخطاب والرجل المصري :

عندما تولّى عمرو بن العاص الإمارة على مصر، وكما يعرف الجميع، فإن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان أميرًا للمؤمنين وخليفةً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك الوقت. وفي أحد الأيام، وكعادة عمرو بن العاص، فقد أقام سباقًا للخيول، والتي يهتم بها العرب كثيرًا نظرًا لعشقهم للفروسية والخيول، وخلال السباق كان محمد بن عمرو بن العاص أحد المشاركين بحصانه فيه، وقد سبق حصان أحد العامة من الشعب حصان محمد بن عمرو بن العاص. واستفز ذلك الأمر محمد بن عمرو بن العاص واستثار نفسه وأسقطه في بؤرة وإثم التكبّر والخيلاء، فأقدم على خصمه ليضربه بالسوط، وقال له نصًّا:

“خذها وأنا ابن الأكرمين”.

لم يكن بيد الرجل إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين ليشكو مظلمته، فطلب الفاروق رضي الله عنه حضور أمير مصر عمرو بن العاص وابنه محمد. فاجأ الفاروق عمر رضي الله عنه الرجل بأن طلب منه فور حضور عمرو بن العاص وابنه أن يضرب الولد بالسوط كما ضربه، أي أن يردّ له ضربته، وقال:

“دُونَكَ الدِّرَّةُ فَاضْرِبْ بِهَا ابْنَ الأَكْرَمِينَ! اِضْرِبْ ابْنَ الأَكْرَمِينَ”، ثم توجّه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ووبّخه بشدة ناطقًا بالجملة الشهيرة:

“أَيَا عَمْرُو، مَتَى اسْتَعْبَدْتُم النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتهُم ْأُمَّهَاتُهُم أَحْرَارًا؟”.

 

خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وفائض بيت المال :

يبرز التاريخ فترة حكم خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز كأحد أكثر الفترات ازدهارًا في التاريخ الإسلامي، ومن ضمن المواقف الفريدة التي وقعت في ذلك السياق هي الموقف الآتي.

كان فائض بيت المال من الزكاة زائدًا عن الحاجة، ولم يجد المسؤولون عنه ما قد يمكن أن يفعل به، فلجأ العديد منهم إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يسألونه عمّا يمكن أن يفعلوه بذلك الفائض، وكلّما سألهم عن حاجة اجتماعية تحتاج لسدّها يجيبون بأنها غير موجودة.. يسألهم عن الفقراء فيجيبون بأن الفقراء اختفوا والتوازن الاجتماعي في أوّج فترات تحقّقه، ويسألهم عن جيش المسلمين ويجيبون بأنه يمتلك ما يفيض عن حاجته من المؤن والسلاح، ويسألهم عن المساجد والبيوت والمنشآت فيجيبون بأنها في أفضل حال. ظن جمهور المسؤولين عن الدولة أن أمير المؤمنين سوف يحكم بحفظ فائض بيت المال، لكن عمر بن عبد العزيز قد اتخذ قرارًا تاريخيًا يعيش صداه إلى يومنا هذا، فقد أمر بالطواف أمام دور المواطنين وفي الشوارع والمناداة بالآتي: “من كان عاملًا للدولة وليس له بيت يسكنه فليبن له بيت على حساب بيت مال المسلمين، يا أيها الناس من كان عاملًا للدولة وليس له مركب يركبه؛ فليشترِ له مركب على حساب بيت مال المسلمين، يا أيها الناس؛ من كان عليه دين لا يستطيع قضاؤه؛ فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين، ﻳﺎﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ: ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ سن الزواج ولم يتزوج، فزواجة ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ بيت ﻣﺎﻝ المسلمين”.

إن المواقف والمواضع التاريخية المتعلقة بالعدل والفصل القانوني في العصر الإسلامي لا تعد ولا تحصى، لكن جميع الصور التي نستطيع استخلاصها من تلك الحقبة لا تمثّل سوى مسألة واحدة، ألا وهي حقيقة أن التشريع الإسلامي كانت له الأسبقية بين العديد من المجتمعات والحضارات الإنسانية في توليد الأفكار المتعلقة بالتطوير في القانون الإنساني، ولا يتضح من تلك المواقف إلى أن الشريعة الإسلامية ناسبت النشاط الإنساني بشكل كبير أدّى إلى ظهور العديد من التفاصيل والأدوار الخاصة بها فيما بعد، والتي ظهرت في العديد من المواقف التي استعرضنا بعضها، والتي –كما يتضح- كانت تلك المرة الأولى التي ظهر فيها نزاع كهذا، لكن بالرغم من ذلك فإن الشريعة الإسلامية كانت بحجم الموقف، واستوعبت الأمر بمنتهى الأريحية والمرونة.

 

error: عذرا, المحتوى محمي و لا يجوز النسخ