لمحة عن القضاء في الإسلام
مما لا شك فيه، أن واحدة من أهم النعم التي هدانا الله سبحانه وتعالى إليها هي نعمة الشريعة، وما تمتلكه تلك الكلمة في عمادها الإسلامي من تطبيقات وتشريعات تحسم العديد من الأمور التي كان معظمها غائبًا عن الوعي الإنساني، مما وضعه في مرحلة من الإظلام والضياع لعدد مهول من السنوات، والجدير بالذكر أن مجموعة التشريعات التي ربما تبدو بسيطة في جوهرها، قد كانت عمادًا رئيسيًا في تخليص الإنسان من غياب اللمحة الإنسانية في حضارته، والتي تسبّبت في ظهور العديد من الظواهر التي وضع الإسلام وتشريعاته حدًّا قاطعًا لها.
نتعرض في تلك الدراسة المقتضبة إلى موضع القانون في الدين الإسلامي، وإلى المدى الذي أنتجته الشريعة الإسلامية من تطويرات وحديثات قانونية على الحضارة الإنسانية أرست على الإنسان مجموعة من مفاهيم العدل والمساواة كانت غائبة عنه للعديد من القرون، والتي على إثرها كان حبيسًا في أجواء مفعمة بالتعصب والجاهلية وانعدام الاتزان التشريعي على جميع الًأصعدة.
سوف نستعرض مجموعة من المراحل التي تم من خلالها إنشاء نظام قضائي في المجتمع الإسلامي وضع الجميع تحت طائلة القانون والشريعة، والذي أخذ يتطور بمراحله وصوره إلى أن وصل إلى أعلى مراتب العدي وأقصى درجات المساواة بين الناس والحفاظ على حقوقهم وحياتهم بشكل إنساني، خالي من الاستعباد والاستبداد.
أهمية البرهان والحجة في الفصل القضائي في الإسلام :
نستعرض فيما يلي من نقاط مجموعة من أهم المبادئ التي قام على أساسها المنصب القضائي الإسلامي وكل ما يحويه من أساليب ومبادئ، وواحد من أهم تلك المبادئ التي يقوم عليها الفصل القويم بين المتخاصمين وحسم المواقف ذات الجدل الكبير هو ما يدعى بالحجة والبرهان.
ذلك المبدأ قد ساعد بشدة في الاعتماد على أداة فكرية مضمونة لتقليص احتمالية اتخاذ القرار أو الحكم الخاطئ، وقد تطرق جمعور المشرعين بدايةً من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلى من جاء بعده إلى أن الحجة والبرهان يجب أن يلازما أي استنتاج أو اعتراف أو شهادة قد تقع في صلب القضية المطلوب الفصل فيها، وقد لاح ذلك المبدأ بشكل منتظم تنفيذًا لقوله تعالى في العديد من المواضع القرآنية، والتي من ضمنها ما جاء في سورة البقرة الآية 111: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”، وقوله سبحانه وتعالى في سورة النمل الآية 13: “فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ”.
مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في القضاء الإسلامي
أحد أهم المبادئ أيضًا التي تقوم عليها المؤسسة القضائية في الدولة الإسلامية يتمثّل في مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين كلٍّ من الممتثلين أمامه، ويتمثّل ذلك في العديد من المواضع. يقتضي منصب القاضي أن يكون عادلًا بين البشر، بغض النظر عن أيٍّ مما يملكونه من جاه أو سلطان، وعليه أيضًا أن يعدل بين كفّاتهم بغض النظر عن أنسابهم، أو أعراقهم، أو حتى دينهم. وفي ذلك السياق، يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته الشهيرة للقاضي أبي موسى الأشعري:
“إن القضاء فريضةٌ مُحْكَمة، وسُنَّة مُتَّبَعة، فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفِك، ولا ييئس ضعيف في عدلك، والبيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنْكَرَ”.
مبدأ وحدة المصدر التشريعي في الفصل القضائي :
إن نجاح مسألة القضاء في المجتمع الإسلامي تتمثّل في واحدة من أهم المبادئ الذي احتفظت به السلطة القضائية الإسلامية بالتزام، ألا وهي وحدة المصدر التشريعي لإطلاق الأحكام والفصل بين المتنازعين، فقد اتفق جمهور المشرّعين والصحابة والصالحين، وعلى رأسهم جميعًا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم، على أن المصدر الرئيسي والوحيد للفصل في أي قضايا من الناحية التشريعية يتمثّل في القرآن والسنّة، وقد حال ذلك بين أن العدل وبين أن يكون الحكم المتخذ عرضة لأيٍّ من أهواء النفس البشرية أو اختلاف وجهات النظر، ممّا قلّص احتمالية صدور أي حكم يتبع أهواء الإنسان دون الرجوع إلى مصدر دستوري تشريعي ثابت جدير بالثقة. وقد يبرز ذلك المبدأ في قوله تعالى في تنزيله الحكيم في سورة المائدة الآية 47:
إن الفصل القضائي في المجتمع الإسلامي كان واحدًا من أهم الملامح التي تم من خلالها استنتاج الصورة الأوضح حول القانون في المجتمع آنذاك، والمكانة العالية التي منحها المجتمع الإسلامي للقاضي أو صوره، الذي كان يفصل بين الناس بالعدل، ويُرجع إليه في كل المواقف، تعد دليلًا واضحًا على أهمية القضاء والفصل القانوني التي احتمى بها المجتمع الإسلامي من العديد من المخاطر الاجتماعية مثل التفكك أو الارتداد، وعليه فإن الإسلام له واحدة من أهم شرارات البداية التي قامت عليها مسألة إنسانية معهمة كالفصل القانوني وأهمية السلطة التنفيذية للقضاء بين المتنازعين.